محمد عالي شريف.. وزير القناعة والجرأة/ محمد المنى

سَعِدتُ ليلةَ البارحة بلقاء طيب ومفيد مع المثقف الوطني ورجل الدولة معالي الوزير محمد عالي شريف، وهو رجل مخضرم عاش تجارب ثرية وصنع نفسَه بنفسه، ثم وضع مواهبَه وطاقاتِه في خدمة الوطن وأدى مهامَّ منصبه العمومي على أكمل وجه في فترة كانت تعج بالصعاب والتحديات.

ولعل محمد عالي شريف الذي ولد وترعرع في «غينيا الفرنسية» (كوناكري) حيث تربى على يدي والده الذي كان أحد أعلام العلم والصلاح، قبل أن يسافر إلى الغرب طالباً جامعياً، لعله أول بيظاني يحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، ولعله أيضاً أول بيظاني تلقَّى دراستَه العليا في الولايات المتحدة الأميركية.. وعلاوةً على ذلك فهو ينتمي إلى طراز نادر من المثقفين الذين شغلوا مناصب رسمية عليا، لكنهم احتفظوا بالقدرة على استعمال كلمة «لا» كلما لزم الأمر لذلك، وعلى ألا يقولوا إلا ما يمثل بالنسبة لهم قناعةً حقيقية. وفي قناعة الوزير محمد عالي شريف أن كل شيء في مجال الحياة العامة ينبغي أن يخضع لميزان التفكير العقلاني وليس لرغبات الأشخاص أو عواطف الجماعات.


كان محمد عالي شريف أحد الكفاءات الموريتانية المهاجرة التي استقطبها الرئيس المؤسس المرحوم المختار ولد داداه للمشاركة في بناء الوطن في السنوات الأولى بعد نيل الاستقلال، فخبِر شخصيةَ الرئيس على مدى سنوات كان خلالها رجلَ الثقة والخبرة ومستودعَ الأسرار بالنسبة للرئيس الراحل، فهو مدير ديوان الرئاسة وأمينها العام، أي الشخص الممسك بكل ما يصدر عن رئيس الجمهورية ويرد إليه، والمسؤول صاحب المنصب الحساس والمساهم في اتخاذ كثير من القرارات بما فيها التعديلات الوزارية.

وقد كتب عنه المختار في مذكراته مثنياً على خصاله الشخصية والمهنية والفكرية، وقال: «أما محمد عالي شريف، الأمين العام لرئاسة الجمهورية في ما بين 1969 و1978، فقد كان حقيقةً (الرجل المناسب في المكان المناسب). ذلك أنني وجدتُ فيه المعاونَ المباشرَ المثالي. فبذكائه وكفاءته وعمله وضبطه للأمور وسريته وتواضعه الشديد وبعده عن الروح القبلية والجهوية، تمكن من أداء وظيفته الجسيمة والحرجة على أكمل وجه. وعلى الرغم من أنه مكلف إلى جانبي بالإشراف على الأنشطة الأساسية للرئاسة، فلم يحاول أبداً أن يلعب دور رؤساء الوزراء، بل على العكس من ذلك، فقد اكتفى -بمحض إرادته- بالمجالات الإدارية والفنية، وربط أفضل العلاقات مع الوزراء والنواب والسفراء والولاة والموظفين السامين في المصالح المركزية.

وفي حدود علمي، كان المسؤول السامي الوحيد الذي لا يهتم بالظهور والرتب وأوسمة التشريف. فما البرهان على ذلك؟ لقد رغبتُ مراتٍ عدة في تعيينه وزيراً أو منحه على الأقل رتبة وزير أمين عام للرئاسة، كما يوجد في دول أفريقية وعربية كثيرة، لكنه في كل مرة كان يلح علي بالعدول عن ذلك قائلا: (إن ما يهمني هو أن أخدم بلدي بأفضل وجه ممكن). إنني أحتفظ بأحسن الذكريات عن تعاونه الفعال، الصادق والأمين».
أما محمد عالي شريف نفسه فسطّر في كتاب مذكراته الرائع، «سيرة من ذاكرة القرن العشرين»، متحدثاً حول العلاقة بينه وبين الرئيس المختار: «سرعان ما نشأت بيني وبين الرئيس علاقاتُ ثقة يصح أن نصفها بالاستثنائية. فنحن لم نعمل معاً لمدة طويلة نسبياً قبل أن يضمني إليه كأحد معاونيه الأقربين، فضلا عن كوني محدود التأهيل والتجربة في تسيير شؤون الدولة.

ومن جهة أخرى كان بيننا فارق في السن، مع تلك الخصوصية المزدوجة التي يمتاز بها، وهي أنه حليم وصبور إلى أقصى حد. وأنا كنت حينذاك غراً لا أخلو من بعض التسرع الذي يغذيه الحرص على فعل ما هو حسن. ومع ذلك، كنت غير مبال باحتمالات تحويلي خارج منصبي أو حتى فقدان وظيفتي. ومع مرور الوقت، بدا لي أن ألُفت نظر الرئيس إلى ما أعتبره خطأ أو صواباً أو نواقص في تسيير وتصرفات بعض مساعديه. وفي غياب أي رد فعل من الرئيس على ملاحظاتي، شعرتُ بالعجز عن تغيير الأمور، وهو ما قادني إلى تقديم استقالتي مرتين، لكني كنتُ دائماً أتراجع عن رأيي عندما تُقدّم إليَّ وأنا خالي البال أسبابُ البطء في تسليط العقوبات.

ففي الوقت الذي تعاني فيه البلاد من عجز حاد في الكوادر، هل من المناسب التخلص من أشخاص لهم عيوب، أم نحاول تربيتهم وتعليمهم وفق المستطاع، ويكون البديل هو اللجوء إلى المساعدة الفنية الأجنبية التي أعرضنا عنها لتأكيد سيادتنا ومحاولة فرضها؟ ونظراً إلى ثقتي الكاملة في الرجل، وأمانته الفكرية، ونزاهته الأخلاقية التي لا نظير لها، قبلت على مضض التخلي عن استقالاتي، مبيناً أنه لا يعنيني أبداً فصل مسؤولين لهم مستوى فكري عال في بعض الأحيان، لكن ينبغي الصمود أمام التحليلات التي تكون أحياناً جذابةً، وأن نقول (لا) إذا لزم الأمر، كما كان الرئيس يفعل في ظروف أكثر خطورةً وأهمية».


ويذكر الوزير محمد عالي شريف العديدَ من المواقف التي أظهر فيها اعتراضَه للرئيس المختار وعدم اقتناعه ببعض القرارات والتوجهات، وإن عاد وأمعن النظر في بعضها لاحقاً واكتشف أن اعتراضه لم يكن في محله تماماً، لكنه كان صادراً عن قناعة وجرأة في قول الرأي وإعطاء المشورة، قناعة وجرأة قلَّ مَن يمتلكهما بين المقرَّبين مِن رجالات البطانة والبلاط!

زر الذهاب إلى الأعلى